سورة يوسف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


مار يمير، وأمار يمير، إذا جلب الخير وهي الميرة قال:
بعثتك مائراً فمكثت حولاً *** متى يأتي غياثك من تغيث
{فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين}: أي: رجعوا من مصر ممتارين، بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم، وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم. وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم أنهم ليسوا جواسيس، وقولهم: منع منا الكيل، إشارة إلى قول يوسف: فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي. ويكون منع يراد به في المستأنف، وإلا فقد كيل لهم. وجاؤوا أباهم بالميرة، لكنْ لما أنذروا بمنع الكيل قالوا: منع. وقيل: أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة، وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة، ولقولهم: فأرسل معنا أخانا نكتل، ويقويه قراءة يكتل بالياء أي: يكتل أخونا، فإنما منع كيل بعيره لغيبته، أو يكن سبباً للاكتيال. فإن امتناعه في المستقبل تشبيه، وهي قراءة الأخوين. وقرأ باقي السبعة بالنون أي: نرفع المانع من الكيل، أو نكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وضمنوا له حفظه وحياطته. قال: هل آمنكم، هذا توقيف وتقرير. وتألم من فراقه بنيامين، ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة. وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف. قلتم فيه: وإنا له لحافظون، كما قلتم في هذا، فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك، لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف، واستسلم لله وقال: فالله خير حفظاً، وقرأ الأخوان وحفص: حافظاً اسم فاعل، وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز، والمنسوب له الخير هو حفظ الله، والحافظ الذي من جهة الله. وأجاز الزمخشري أن يكون حافظاً حالاً، وليس بجيد، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال. وقرأ الأعمش: خير حافظ على الإضافة، فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ. وقرأ أبو هريرة: خير الحافظين، كذا نقل الزمخشري. وقال ابن عطية: وقرأ ابن مسعود، فالله خير حافظاً وهو خير الحافظين. وينبغي أن تجعل هذه الجملة تفسيراً لقوله: فالله خير حافظاً، لا أنها قرآن. وهو أرحم الراحمين اعتراف بأن الله هو ذو الرحمة الواسعة، فأرجو منه حفظه، وأن لا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه.


البعير في الأشهر الجمل مقابل الناقة، وقد يطلق على الناقة، كما يطلق على الجمل فيقول: على هذا نعم البعير، الجمل لعمومه، ويمتنع على الأشهر لترادفه. وفي لغة تكسر باؤه، ويجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران.
{ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
قرأ علقمة، ويحيى بن وثاب، والأعمش، ردت بكسر الراء، نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة، وهي لغة لبني ضبة، كما نقلت العرب في قيل وبيع. وحكى قطرب: النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو: ضرب زيد، سموا المشدود المربوط بجملته متاعاً، فلذلك حسن الفتح فيه وما نبغي، ما فيه استفهامية أي: أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا قاله قتادة. وكانوا قالوا لأبيهم: قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة، لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. وقال الزجاج: يحتمل أن تكون ما نافية أي: ما بقي لنا ما نطلب. ويحتمل أيضاً أن تكون نافية من البغي أي: ما افترينا فكذبنا على هذا الملك، ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة، وهذا معنى قول الزمخشري ما نبغي في القول ما تتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك والكرامة. وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقرأ عبد الله وأبو حيوة: ما تبغي بالتاء على خطاب يعقوب، وروتها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل ما في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: ونميز بضم النون، والجملة من قولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا موضحة لقولهم: ما نبغي، والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير: فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه. وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما نكذب، جاز أن يكون ونمير معطوفاً على ما نبغي أي: لا نبغي فيما نقول، ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت.
وجاز أن يكون كلاماً مبتدأ، وكرروا حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير على أوساق بعيرنا، لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة، ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه. والظاهر أنّ البعير هو من الإبل. وقال مجاهد: كيل حمار، قال: وبعض العرب تقول للحمار: بعير، وهذا شاذ. والظاهر أنّ قوله: ذلك كيل يسير، من كلامهم لا من كلام يعقوب، والإشارة بذلك الظاهر أنها إلى كيل بعير أي: يسير، بمعنى قليل، يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو يسير بمعنى سهل متيسر لا يتعاظمه. وقيل: يسير عليه أن يعطيه. وقال الحسن: وقد كان يوسف عليه السلام وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن. قال الزمخشري: أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني: ما يكال لهم، فازدادوا إليه ما يكال لأخيه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي: حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله: ذلك ليعلم انتهى. ويعني أن ظاهر الكلام أنه من كلامهم، وهو من كلام يعقوب، كما أن قوله: ذلك ليعلم، ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز، وهو من كلام يوسف. وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله، وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل. ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه، وألحوا عليه في ذلك، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله، إذ به تؤكد العهود وتشدد، ولتأتنني به جواب للحلف، لأن معنى حتى تؤتون موثقاً: حتى تحلفوا لي لتأتنني به. وقوله: إلا أن يحاط بكم، لفظ عام لجميع وجوه الغلبة، والمعنى: تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص. وقال مجاهد: إلا أن تهلكوا. وعنه أيضاً: إلا أن لا تطيقوا ذلك. وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله: لتأتنني، وإن كان مثبتاً معنى النفي، لأن المعنى: لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم. ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم: أنشدك الله إلا فعلت أي: ما أنشدك إلا الفعل. ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدراً بالمصدر الواقع حالاً، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالاً، فيكون التقدير: لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي: محاطاً بكم، لأنهم نصوا على أنّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع حالاً وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالاً. فإن جعلت أنْ والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان، ويكون التقدير: لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي: إلا وقت إحاطة بكم. قلت: منع ذلك ابن الأنباري فقال: ما معناه: يجوز خروجنا صياح الديك أي: وقت صياح الديك، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك، ولا ما يصيح الديك.
وإن كانت أنْ وما مصدريتين، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه. وأجاز ابن جني أن تقع أنْ ظرفاً، كما يقع صريح المصدر، فأجاز في قول تأبط شراً:
وقالوا لها لا تنكحيه فإنه *** لأول فصل أن يلاقي مجمعا
وقول أبي ذؤيب الهذلي:
وتالله ما أن شهلة أم واحد *** بأوجد مني أن يهان صغيرها
أنْ يكون أنْ يلاقي تقديره: وقت لقائه الجمع، وأن يكون أنْ يهان تقديره: وقت إهانة صغيرها. فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات، ولا يقدر فيه معنى النفي. وفي الكلام حذف تقديره: فأجابوه إلى ما طلبه، فلما آتوه موثقهم قال يعقوب: الله على ما نقول من طلب الموثق وإعطائه وكيل رقيب مطلع.
ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين، وكانوا أحد عشر لرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله: ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، والعين حق. وفي الحديث: «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وفي التعوذ ومن كل عين لامة» وخطب الزمخشري فقال: لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة، وقد أشهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع، ويقال: هؤلاء أضياف الملك انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه. فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، ويصيبهم ما يسوءهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين معمورين بين الناس انتهى. ويظهر أنّ خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أنّ محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف، ولم يكن فيهم في الكرة الأولى، فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف. وقيل: نهاهم خشية أن يستراب بهم لقول يوسف: أنتم جواسيس. وقيل: طمع فافتراقهم أن يتسمعوا خبر يوسف، ثم نفى عن نفسه أنْ يغني عنهم شيئاً يعني: بوصاته، إنْ الحكم إلا لله أي: هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد، فعليه وحده توكلت. ومن حيث أمرهم أبوهم أي: من أبواب متفرقة. روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك، ويشكر صنيعك معنا. وفي كتاب أبي منصور المهراني: أنه خاطبة بكتاب قرئ على يوسف فبكى. وجواب لما قوله: ما كان يغني عنهم من الله من شيء، وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا، ظرف زمان بمعنى حين، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية.
لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو، فدل ذلك على أنّ لما حرف يترتب جوابه على ما بعده. وقال ابن عطية: ويجوز أنْ يكون جواب لما محذوفاً مقدراً، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كان يغني. ومعنى الجملة: لم يكن في دخولهم متفرقين دفع قدر الله الذي قضاه عليهم من تشريفهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله، وتزايد مصيبته على أبيهم، بل كان إرباً ليعقوب قضاه وتطييباً لنفسه. وقيل: معنى ما كان يغني عنهم من الله من شيء، ما يرد عنهم قدراً لأنه لو قضى أنْ يصيبهم عين لإصابتهم متفرقين أو مجتمعين، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة، فوصى وقضى بذلك حاجة نفسه في أن بقي يتنعم برجائه أن يصادف وصيته القدر في سلامتهم. وإنه لذو علم يعني لقوله: إن الحكم إلا لله، وما بعده وعلمه بأنّ القدر لا يدفعه الحذر. وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السلام. وقال قتادة: لعامل بما علمناه. وقال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالماً، ولفظة ذو علم لا تساعده على هذا التفسير وإن كان صحيحاً في نفسه. وقرأ الأعمش: مما علمناه.


العير الإبل التي عليها الأحمال، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير. وأصلها فعل كسقف، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد، والعير مؤنث. وقالوا في الجمع: عيرات، فشذوا في جمعه بالألف والتاء، وفي فتح يائه وقال الشاعر:
غشيت ديار الحي بالبكرات *** فعارمة فبرقة العيرات
قال الأعلم: هنا مواضع الأعيار، وهي الحمير. الصواع الصاع، وفيه لغات تأتي في القرآن، ويؤنث ويذكر.
{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين}: روي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يؤاكلهم وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أنْ أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس: تعرف إليه أنه أخوه، وهو الظاهر. وهو قول ابن إسحاق وغيره، أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه، وقال له: لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم. قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله: بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى. ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا، لأمكن على بعده، لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف. وأما ذكر فتيانه فبعيد جداً، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله: وقال لفتيانه، وقد حال بينهما قصص.
واتسق الكلام مع الأخوة اتساقاً لا ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديماً من الأذى، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف. وقال وهب: إنما أخبر أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب، ولم يكشف إليه الأمر، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته.
والظاهر أنّ الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف، ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه لم يباشر ذلك بنفسه، بل جعل غيره من فتيانه، أو غيرهم أن يجعلها. وتقدم قول وهب: إنه لم يكشف له أنه أخوه، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة. وروي أنه قال ليوسف: أنا لا أفارقك قال: قد علمت اغتمام والدي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل. قال: لا أبالي، فافعل ما بدا لك. قال: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم، قال: فافعل. وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري: وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن. وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: في رحل أخيه، فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى برأيه على ما ظهر له، ورجحه الطبري. وتفتيش الأوعية يرد هذا القول، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف. وقال السدي: كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين، وما تقدم يدل على أنه كان بعلم منه.
وقال الجمهور: وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: السقاية إناء يشرب به الملك، وبه كان يكال الطعام للناس. وقيل: كان يسقى بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به، وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها. وقال ابن جبير: الصواع هو مثل المكوك الفارسي، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ماهر. قال: وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية. وقال ابن جبير أيضاً: الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه. كانت تشرب به الأعاجم. والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب، أو نحاس، أو مسك، أو كانت مرصعة بالجواهر أقوال أولها للجمهور، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء.
ثم أذن مؤذن أي: نادى مناد، أذن: أعلم. وآذن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه. وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك.
وقيل: قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا، وأذن مؤذن. والظاهر وقول الجمهور: إن العير الإبل. وقال مجاهد: كانت دوابهم حميراً، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله: يا خيل الله اركبي، ولذلك جاء الخطاب: إنكم لسارقون، فروعي المحذوف، ولم يراع العير كما روعي في اركبي. وفي قوله: والعير التي أقبلنا فيها. ويجوز أن تطلق العير على القافلة، أو الرفقة، فلا يكون من مجاز الحذف: والذي يظهر أن هذا التحيل، ورمى أبرياء السرقة، وإدخال الهم على يعقوب، بوحي من الله. لما علم تعالى في ذلك من الصلاح، ولما أراد من محنتهم بذلك. ويقويه قوله: كذلك كدنا ليوسف. وقيل: لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا، ونسبة السرقة إليهم جميعاً: وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول: بنو فلان فتلوا فلاناً، والقاتل واحد منهم. قالوا: أي إخوة يوسف، وأقبلوا جملة حالية أي: وقد أقبلوا عليهم، أي: على طالبي السقاية، أو على المؤذن إنْ كان أريد به جمع. كأنه جعل مؤذنين ينادون، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا: ماذا تفقدون؟ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام. واحتمل أن يكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما، وتفقدون صلة لذا، والعائد محذوف أي: تفقدونه. وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيداً نحو: أحمدته إذا أصبته محموداً. وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وجهها ما ذكرناه.
وصواع الملك هو المكيال، وهو السقاية سماه أولاً بإحدى جهتيه، وآخراً بالثانية. وقرأ الجمهور صواع بضم الصاد، بعدها واو مفتوحة، بعدها ألف، بعدها عين مهملة. وقرأ أبو حيوة، والحسن، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك، إلا أنه كسر الصاد. وقرأ أبو هريرة، ومجاهد: صاع بغير واو على وزن فعل، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء: صوع على وزن قوس. وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطيان: صوع بضم الصاد، وكلها لغات في الصاع. وقرأ الحسن، وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح: صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه يحذف الألف ويسكن الواو. وقرأ زيد بن علي: صوغ مصدر صاغ، وصواغ صوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك. ولمن جاء به أي: ولمن دل على سارقه وفضحه، وهذا جعل وأنا به زعيم من كلام المؤذن. وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى ما جاء به، وأراد به وسق بعير من طعام جعلاً لمن حصله.
قالوا: تالله أقسموا بالتاء من حروف القسم، لأنها تكون فيها التعجب غالباً كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر. وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا ثمن، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم، وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد، ثم استأنفوا الإخبار عن نفي صفة السرقة عنهم، وأن ذلك لم يوجد منهم قط. ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم، فيكون معطوفاً على قوله: لقد علمتم. قال ابن عطية: والتاء في تالله بدل من واو، كما أبدلت في تراث، وفي التوراة، والتخمة، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول: تالرحمن، ولا تالرحيم انتهى. أما قوله: والتاء في تالله بدل من واو، فهو قول أكثر النحويين. وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلاً من واو، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو. وأما قوله: وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل ورواة من ورى الزند. ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة، وذلك مذكور في النحو. وأما قوله: ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب، وعلى الرحمن، وعلى حياتك، قالوا: ترب الكعبة، وتالرحمن، وتحياتك. والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع، والضمير في جزاؤه عائد على السارق. فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين له؟ قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: فما جزاؤه الضمير للصواع أي: فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى. وقوله: هو الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله: قالوا جزاؤه من وجد في رحله، إذ التقدير إذ ذاك قال: جزاء الصاع، أي: سرقته من وجد الصاع في رحله. وقولهم: جزاؤه من وجد في رحله، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته، فكأنهم يقولون: لا يمكن أن نسرق، ألا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا. وكان في دين يعقوب استعباد السارق. قال الزمخشري: سنة، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، ولذلك أجابوا على شريعتهم، وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوهاً: أحدها: أن يكون جزاؤه مبتدأ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، فهو جزاؤه جواب الشرط، أو خبر ما الموصولة، والجملة من قوله: من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول، والضمير في قالوا: جزاؤه للسارق قاله ابن عطية: وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط. الثاني: أنّ المعنى قالوا: جزاء سرقته، ويكون جزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر.
والأصل جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو. فموضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فتقول: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من، والثاني إلى الأخ. ثم تقول: فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري. ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو: زيد قام زيد. وينزه القرآن عنه. قال سيبويه: لو قلت كان زيد منطلقاً زيد، لم يكن ضد الكلام، وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقاً هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره. الثالث: أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول: من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم، ثم تقول: {ومن قتله منكم متعمداً فجزآء مثل ما قتل من النعم} قاله الزمخشري. وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله: المسؤول عنه جزاؤه، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة، إذ قد علم من قوله: فما جزاؤه أنّ الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته، فأي فائدة في نطقهم بذلك؟ وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي. الرابع: أن يكون جزاؤه مبتدأ أي: جزاء سرقة الصاع، والخبر من وجد في رحله أي: أخذ من وجد في رحله. وقولهم: فهو جزاؤه، تقرير لحكم أي: فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك: حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤه، أو فهو حقه، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال: ويصح أن يكون من خبراً على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من، ويكون قوله: فهو جزاؤه، زيادة بيان وتأكيد. ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله: فهو جزاؤه. وهذا القول هذا الذي قبله، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بد من تقديره، لأنّ الذات لا تكون خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله جزاؤه أخذ من وجد في رحله، أو استرقاق هذا لا بد منه على هذا الإعراب. وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف. كذلك أي: مثل الجزاء، وهو الاسترقاق. نجزي الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11